الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال البيضاوي: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى}أجعله خالصًا لنفسي. {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء. {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ} ذو مكانة ومنزلة. {أَمِينٌ} مؤتمن على كل شيء. روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثيابًا جددًا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك: ما هذا اللسان قال: لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لسانًا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال: أحب أن أسمع رؤياي منك، فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره. وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا.{قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} ولني أمرها والأرض أرض مصر. {إِنّي حَفِيظٌ} لها ممن لا يستحقها. {عَلِيمٌ} بوجوه التصرف فيه، ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده وتجل عوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها والتولي من يد الكافر إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد أن الملك أسلم على يده.{وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} في أرض مصر. {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} ينزل من بلادها حيث يهوى وقرأ ابن كثير {نشاء} بالنون. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} في الدنيا والآخرة. {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} بل نوفي أَجورهم عاجلًا وآجلًا. {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الشرك والفواحش لعظمه ودوامه.{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} روي: أنه لما استوزره الملك أقام العدل واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلات، حتى دخلت السنون المجدبة وعم القحط مصر والشأم ونواحيهما، وتوجه إليه الناس فباعها أولًا بالدراهم والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعًا ثم عرض الأمر على الملك فقال: الرأي رأيك فأعتقهم ورد عليهم أموالهم، وكان قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب بنيه غير بنيامين إليه للميرة. {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي عرفهم يوسف ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن الحداثة ونسيانهم إياه، وتوهمهم أنه هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه وقلة تأملهم في حلاه من التهيب والاستعظام.{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله، والجهاز ما يعد من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها وقرئ: {بِجَهَازِهِمْ} بالكسر. {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} روي: أنهم لما دخلوا عليه قال: من أنتم وما أمركم لعلكم عيون؟ قالوا: معاذ الله إنما نحن بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب، قال كم أنتم؟ قالوا كنا اثني عشر فذهب أحدنا إلى البرية فهلك، قال: فكم أنتم هاهنا قالوا عشرة، قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا: عند أبينا يتسلى به عن الهالك، قال: فمن يشهد لكم. قالوا: لا يعرفنا أحد هاهنا فيشهد لنا قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصابت شمعون. وقيل كان يوسف يعطي لكل نفر حملًا فسألوه حملًا زائدًا لأخ لهم من أبيهم فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم. {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّي أُوفِى الكيل} أتمه. {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} للضيف والمضيفين لهم وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي ولا تقربوني ولا تدخلوا دياري، وهو إما نهي أو نفي معطوف على الجزاء.{قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} سنجتهد في طلبه من أبيه. {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك لا نتوانى فيه.{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} لغلمانه الكيالين جمع فتى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {لِفِتْيَانِهِ} على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله: {اجعلوا بضاعتهم في رِحَالِهِمْ} فإنه وكل بكل رحل واحدًا يعني فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام، وكانت نعالًا وأدمًا وإنما فعل ذلك توسيعًا وتفضلًا عليهم وترفعًا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم، وخوفًا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به. {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} لعلهم يعرفون حق ردها. أو لكي يعرفوها. {إِذَا انقلبوا} انصرفوا ورجعوا. {إلى أَهْلِهِمْ} وفتحوا أوعيتهم. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع.{فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين. {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} نرفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ أي يكتل لنفسه فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} من أن يناله مكروه.{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} وقد قلتم في يوسف: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون}. {فالله خَيْرٌ حافظا} فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه، وانتصاب {حفظًا} على التمييز و: {حافظا} على قراءة حمزة والكسائي وحفص يحتمله والحال كقوله: لله دره فارسًا، وقرئ: {خَيْرٌ حافظا} و{خير الحافظين}. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} فارجوا أن يرحمني بحفظه ولا يجمع على مصيبتين.{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} وقرئ: {رُدَّتْ} بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل. {قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِي} ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا. أو لا نطلب وراء ذلك إحسانًا أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه. وقرئ: {ما تبغي} على الخطاب أي: أي شيء تطلب وراء هذا من الإِحسان، أو من الدليل على صدقنا؟: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} استئناف موضح لقوله: {مَا نَبْغِى}. {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك. {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا. {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} وسق بعير باستصحاب أخينا، هذا إذا كانت: {مَا} استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن تكون الجمل معطوفة على: {مَا نَبْغِى}، أي لا نبغي فيما نقول: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا}. {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي مكيل قليل لا يكفينا، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك ولا يتعاظمه، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} إذ رأيت منكم ما رأيت. {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله} حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي عهدًا مؤكدًا بذكر الله. {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعًا وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به، في تأويل النفي أي لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم: أقسمت بالله إلا فعلت، أي ما أطلب إلا فعلك. {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} عهدهم. {قَالَ الله على مَا نَقُولُ} من طلب الموثق وإتيانه. {وَكِيلٌ} رقيب مطلع.{وَقَالَ يَا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا، ولعله لم يوصهم بذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين. وللنفس آثار منها العين والذي يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في عوذته: «اللهم إني أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة»: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} مما قضى عليكم بما أشرت به إليكم فإن الحذر لا يمنع القدر. {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء ولا ينفعكم ذلك. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم.{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي من أبواب متفرقة في البلد. {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ} رأي يعقوب واتباعهم له. {مّنَ الله مِن شَئ} مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه السلام. فسُرِقُوا وَأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب. {إِلاَّ حَاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ} استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه، يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا. {قَضَاهَا} أظهرها ووصى بها. {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ} بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} ولم يغتر بتدبيره. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر.{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل روي: أنه أضافهم فأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيدًا فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيًا لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته ثم قال: لينزل كل اثنين منكم بيتًا وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات عنده وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، قال: من يجد أخًا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و: {قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن افتعال من البؤس.{بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في حقنا فيما مضى.{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية} المشربة. {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} قيل كانت مشربة جعلت صاعًا يكال به وقيل: كانت تسقى الدواب بها ويكال بها وكانت من فضة. وقيل من ذهب وقرئ و{جعل} على حذف جواب فلما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} نادى مناد. {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة والسلام أو كان تعبية السقاية والنداء عليها برضا بنيامين. وقيل معناه إنكم لسارقون يوسف من أبيه أو أئنكم لسارقون، والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تتردد، فقيل لأصحابها كقوله عليه الصلاة والسلام: «يا خيل الله اركبي» وقيل جمع عير وأصله فعل كسقف فعل به ما فعل ببيض تجوز به لقافلة الحمير، ثم استعير لكل قافلة.{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} أي شيء ضاع منكم، والفقد غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، وقرئ: {تَفْقِدُونَ} من أفقدته إذا وجدته فقيدًا.{قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} وقرئ: {صاع} و{صوع} بالفتح والضم والعين والغين و{صواغ} من الصياغة. {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام جعلًا له. {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل.{قَالُواْ تالله} قسم فيه معنى التعجب، التاء بدل من الباء مختصة باسم الله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض وَمَا كُنَّا سارقين} استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم ومداخلتهم للملك مما يدل على فرط أمانتهم كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم وكعم الدواب لئلا تتناول زرعًا أو طعامًا لأحد.{قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ} فما جزاء السارق أو السرق أو ال: {صُوَاعَ} على حذف المضاف. {إِن كُنتُمْ كاذبين} في ادعاء البراءة.{قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه، هكذا كان شرع يعقوب عليه الصلاة والسلام. وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقرير للحكم وإلزام له، أو خبر: {مِنْ} والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها على أنها شرطية. والجملة كما هي خبر: {جَزَاؤُهُ} على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير كأنه قيل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. {كذلك نَجْزِى الظالمين} بالسرقة.{فبدأ بأوعيتهم} فبدأ المؤذن وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر: {قبل وعاء أخيه} بنيامين نفيا للتهمة: {ثم استخرجها} أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث: {من وعاء أخيه} وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة: {كذلك} مثل ذلك الكيد: {كدنا ليوسف} بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد: {إلا أن يشاء الله} أن جعل ذلك الحكم حكم الملك فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه: {نرفع درجات من نشاء} بالعلم كما رفعنا درجته: {وفوق كل ذي علم عليم} أرفع درجة منه واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص. اهـ..قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة: قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}واختلف في قوله: {وقال الملك} فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: هو الريان الذي هو الملك الأكبر. قال الرازي: وهذا هو الأظهر لوجهين:الأوّل: أنّ قول يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} يدل عليه.الثاني: قوله: {أستخلصه لنفسي} يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصًا وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصًا للعزيز فدل هذا على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر انتهى. وإنما صرّح به ولم يستغن بضميره كراهية الالتباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه السلام، ولو كان الكل من كلامها لاستغني بالضمير، ولم يحتج إلى إبرازه: {ائتوني به استخلصه لنفسي}، أي: أجعله خالصًا لي دون شريك. قال ابن عباس: فأتاه الرسول فقال له: ألق عنه ثياب السجن وألبسه ثيابًا جددًا، وقم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، واغتسل وتنظف ولبس ثيابًا جددًا بعد أن دعا لأهل السجن فقال: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عنهم الأخبار، وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم أتى الملك فلما رآه غلامًا حدثًا فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ ثم أقعده قدّامه وقال له: لا تخف وألبسه طوقًا من ذهب وثيابًا من حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وروي أنّ جبريل عليه السلام دخل على يوسف وهو في الحبس وقال: قل: اللهم اجعل لي من عندك فرجًا ومخرجًا، وارزقني من حيث لا أحتسب، فقبل الله تعالى دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وروي أنّ يوسف لما دخل عليه قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان آبائي، قال وهب: كان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين، وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف عليه السلام وزاد بالعربية والعبرانية: {فلما كلمه}، أي: كلم الملك يوسف عليه السلام وشاهد منه ما شاهد من جلال النبوّة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة أقبل عليه وقال: إني أحبّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهًا، فأجابه بذلك الجواب شفاهًا وشهد قلبه بصحته فعند ذلك.
|